لا يختلف اثنان في الجزائر على أنّ الكيان الاجتماعي و الهيكل المؤسّساتي للدولة يعانيان من عدّة اختلالات وظيفية و بنيوية، تكاد تعصف بهما نظرًا لعدم قدرتهما على تأدية الوظائف الموكلة لهما، كما إنّ عدم القدرة على تأدية الوظائف وصلت ذروتها بالنسبة لبعض المؤسّسات، إذ يمكن أن نصطلح عليها أنّها تعاني من حالة إفلاس أو عجز، إنّ الجامعة الجزائرية لا تشكل استثناء عن هذه القاعدة و لهذا فإنّ إجراء دراسة نقدية لواقع الحرم الجامعي تعدّ ضرورة ملحّة.
إذًا فإن كانت الجامعة تعاني من مجموعة من الاختلالات الوظيفية و البنيوية، فما هي مظاهر و طبيعة هذه الاختلالات؟ كيف و لماذا تعيش الجامعة هذا الواقع؟ كان هذا الواقع لا يزال مستمرًا فهو في صالح من؟
واقع الإدارة الجامعية و سياسات النماذج المستوردة
ن طبّقنا المفاهيم الحديثة للإدارة فإنّنا نفهم من خلال مجموعة من المؤشّرات أنّ الإدارة و التنظيم على مستوى البنى الجامعية فاقدة لمعنى وجودها فهي لا تمتلك القدرة على الأداء و لا الفعالية في الانجاز، فلا عجب أنّ الجامعة تواجه كل سنة دخولًا جامعيًا غير مستقر و هذا راجع إلى غياب نظرة استشرافية و إلى غياب حس الاستفادة من الاختلالات التي عرفتها السنوات السابقة، إنّ الدراسات المسحية من الأدوات الضرورية للقضاء على مجموعة من هذه المظاهر بالإضافة إلى تخصيص جلسات تقييمية قادرة على استيعاب الاخفاقات المتتالية غائبة عن الثقافة التنظيمية للإدارة هذا من جهة، كذلك غياب خطة طريق توحّد الجهود الإدارية على مستوى الجامعة غير معلنة لا في الخطاب و لا في الممارسة ما يمنح الفرصة في تفسير إخفاق بنية الذي هو بدوره سبب في إخفاق بنية أخرى بغرض التملّص من المسؤولية، لكن المتمعّن في الواقع الحالي يصل الى نتيجة حتمية و هي أنّ الإخفاق يشمل جل النسيج الجامعي، فتحديث الجامعة لا يعني مطلقًا استحداث الهياكل الكبرى و لا تحديث المناهج بقدر أنّ المشكلة الأولى تكمن في تحديث الثقافة التسييرية و التنظيمية للجامعة الجزائرية، فما فائدة الإصلاحات المتكرّرة من دون إدراج الإصلاحات على المستويات القيادية، فالقيادات الفاشلة إنّما هي قادرة على إفشال حتّى المشاريع الناجحة و هذه تجربة يؤكّدها الواقع فالمثل يقول إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
مام هذا الواقع المليء بالتناقضات اكتفت الإدارة الوصية بالأخذ بمجموعة من الإصلاحات لا على المستوى الممارساتي و إنّما كسياسات تسويقية تستهدف الرأي العام خارج أسوار الجامعة لأنّ من يعيش واقع تلك الإصلاحات يعرف حقيقتها، فالنماذج الناجحة في دول العالم تمّ استيرادها و تطبيقها جزئيًا من دون البحث في خلفياتها الفكرية و القيمية و لم تدرس قدرة و قابلية الإدارات الجامعية على تطبيق مثل تلك الإصلاحات، إنّ مثل هذه النماذج الناجحة في كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا كانت نتيجة لنسق تطوّري متدرّج و سياسات التحديث في هذه الدول أتت على شكل استجابة لهذا المنطق من جهة و التكيّف مع سوق العمالة من جهة ثانية، فماليزيا أو اندونيسيا لم تعتمد على نماذج جاهزة للاستهلاك كما هو الحال بالنسبة لنا و إنّما عمدت إلى بلورت نموذج خاص مبني على مجموعة من النماذج الدولية مكيّف وفق الحجات المحلية لكل دولة على حدى.
و كنتيجة لمثل هذه السياسات التي اعتمدت في الجزائر أصبحت الجامعة الجزائرية فاقدة للهوية العلمية، فهي لا تمتلك أسلوب علمي ينسب إليها ما من شأنه أن يشكّل خصوصية ذاتية للحرم الجامعي الجزائري، إنّ فعالية الجامعة لا تقاس بعدد الإصلاحات التي يعرفها القطاع و لا بالإنجازات المشيّدة للأقطاب الجامعية التي لا تتمكّن من الإنتاج العلمي و لا تكوين كوادر قادرة على إدارة دواليب الدولة كلّها مؤشّرات توحي بأنّ الجامعة الجزائرية اخفقت في أداء وظائفها الحيوية.
تحالف الإدارة و السياسة ضد المشروع الجامعي
إنّ للجامعة الجزائرية تاريخ كتبه مجموعة من الطلبة و الأساتذة و ذلك حتّى في إثناء الحقبة الاستدمارية، فـ فرحات عباس، عيسات ايدير، مالك بن نبي، عبد الحميد بن باديس وَ البشير الإبراهيمي يعدّون من حملة اللّواء العلمي الأوّل رغم اختلاف تحصيلهم العلمي و لهم فضل كبير في بلورة الوعي الوطني الجزائري و الهوية الجزائرية، كما شكّلت الجامعة الجزائرية قطبًا رافضًا و معقلًا للمعارضة السياسية، خصوصًا سنوات السبعينيات و الثمانينيات و كانت تنتج خطابًا عقلاني رافض لديماغوجية الحكم، كما انتقدت بشدّة سياسات الارتجال و الشعبوية المنتهجة في ظل الأيديولوجية الاشتراكية الرامية لدولنة المجتمع الجزائري، فالجامعة الجزائرية آنذاك انتجت خطابًا علميًا و تبنّت مواقف في صالح الدولة و المجتمع الجزائري.
و أمام هذا الواقع كانت السيطرة على الجامعة ضرورية لضمان استقرار السلطة السياسية في البلاد و لخدمة هذه الاستراتيجية تمّ خلق تحالف بين الإدارة و السياسة لإحكام القبضة على الديناميكية التي كانت تشهدها الجامعة، فالقيادة الإدارية على مستوى الجامعة أصبحت تُنتقى على أساس الولاءات السياسية من خلال انخراط هذه الأخيرة في الهياكل الحزبية التي تشكّل الواجهة السياسية للنظام الحاكم، فرؤساء الجامعات و عمداء الكليات يعيّنون على أساس هذه الولاءات و ليس من خلال الكفاءة و القدرة على إدارة الموارد التي تحتويها الجامعة، فكيف يمكن أن نفسّر وجود عمداء كليات تفوق عهدة عمادتهم العشر سنوات رغم الكوارث و الفضائح التي ميّزت فترة إدارتهم؟ و كيف نفسّر وجود رؤساء جامعات من دون محصّل علمي؟ ضف إلى ذلك أنّ الوصاية لم تعرف تغييرًا منذ أزيَد من أحد عشر سنة، كما أنّ الإستراتيجية التي تستهدف الجامعة عمدت إلى خلق عدّة مراكز جامعية بهدف تفكيك القوة الجامعية، فمن جهة تعاني الجامعة من نقص فادح في التأطير لكن في المقابل زيادة المراكز الجامعية يعدّ تناقض صارخ في التسيير (هذه الزيادة ذات أهداف غير معلنة على حساب التحصيل و التكوين و النوعية). إنّ النهوض بمشروع الجامعة الجزائرية لا يشكّل أولوية هذا التحالف، إنّ أولوية التحالف تكمن في إجهاض إمكانية تكوين نخبة قادرة على طرح البديل السياسي و الاجتماعي و بمقتضى ذلك تطرح نفسها كنخبة قادرة على الاستحواذ على القوة السياسية في البلادإنّ شبكة هذا التحالف لا تتشكّل فقط من بعض القيادات الإدارية على مستوى الهرم الجامعي، فالاستراتيجية استهدفت كذلك القاعدة الطلابية، فالتحالف بين السياسة و الإدارة أنتج بدوره تحالفًا بين الإدارة و النقابات الطلابية، لأنّ هذه الأخيرة تشكّل همزة وصل بين السياسة و الإدارة، فالتنظيمات الطلابية هي امتداد للهياكل الحزبية المسيطرة على دفة الحكم و التنظيم الجامعي، إنّ رؤساء هذه التنظيمات ليسوا طلبة فأعمارهم تفوق الأربعين سنة.. فما هي المصلحة التي تجمع ما بين الطالب الجامعي و هذا النقابي الذي لا ينتمي أصلًا للجامعة؟.. ما هي المطالب التي سيدافع عنها هذا النقابي و هو لا يفقه شيئًا عن حال الطالب و الجامعة؟.. و ما يمكن أن نصف به التنظيمات الطلابية صالح كذلك للتنظيمات النقابية التي تجمع الأساتذة و في حال ما شهدنا صراعًا بين هذه الدوائر فإنّنا قد نكذّب هذا الطرح، لكن في الحقيقة إنّ الصراعات التي تميّز هذه الدوائر إنّما تؤكّد ما نحن بصدد الإشارة إليه، إذ لا تتعدّى تلك الصراعات مجرّد تصفية حسابات ذات رهانات سلطوية أو تناقض مصلحي ظرفي بين هذه الدوائر فهي شبكة واحدة لا يمكن أن تستغني على أحد أجزائها، فلهذه التنظيمات وظيفتين أساسيتين تتمثّل الأولى في إجهاض أي محاولة للتغيير من الداخل قد تستهدف الواقع الراهن و وظيفة أخرى متمثّلة في تجميع المساندة اللّازمة.
و كتحصيل لهذه النقطة يمكن القول أنّ الجامعة تسير بمنطق سياسي من خلال انتاج بنية خفية متعدّدة الانتشار ذات هدف سياسي موحّد، و من خلال ما سبق فإنّ الجامعة الجزائرية أصبحت تلعب دورًا سياسيًا بدلًا من الوظيفة الأساسية التي أُنشئت من أجلها و هذا التغيير رافقه تغيير أخطر من ذلك، بحيث تحوّل الإطار الجزائري من مثقف ينتمي إلى المجتمع المدني إلى مثقف مرتبط مصلحيًا بالمجتمع السياسي و في حال عدم الارتباط سيواجه حتمية أكيدة و هي الإقصاء .
لقد تناولنا في هذا المقام بعديْن من أزمة وجود الجامعة الجزائرية و سنرفقها بمقال آخر نتناول فيه الأبعاد السيكولوجية و المادية، لأنّنا نؤمن يقينًا إذا ما لم تتخلّص الجامعة من السيطرة السياسية و الارتجال الإداري فإنّ المجتمع الجزائري في خطر مؤكّد من جهة، و من جهة ثانية فإنّ أي تغيير عقلاني ذو بعد تطوّري بدايته الأولى من تصارع القوى العقلانية داخل كيان مستقل و مقدّس هو الجامعة.
منقول من موقع نظرة جزائرية.
منقول من موقع نظرة جزائرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق